فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قال أبو حنيفة: القتل العمد لا يوجب الكفارة، وقال الشافعي: يوجب.
احتج أبو حنيفة بهذه الآية، فقال قوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خطأ} شرط لوجوب الكفارة وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط، فيقال له: إنه تعالى قال: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 25] فقوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} ما كان شرطا لجواز نكاح الأمة على قولكم، فكذلك ههنا.
ثم نقول: الذي يدل على وجوب الكفارة في القتل العمد الخبر والقياس.
أما الخبر فهو ما روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل، فقال: اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.
وأما القياس: فهو أن الغرض من إعتاق العبد هو أن يعتقه الله من النار، والحاجة إلى هذا المعنى في القتل العمد أتم، فكانت الحاجة فيه إلى ايجاب الكفارة أتم والله أعلم.
وذكر الشافعي رضي الله عنه حجة أخرى من قياس الشبه فقال: لما وجبت الكفارة في قتل الصيد في الاحرام سوينا بين العامد وبين الخاطئ إلا في الإثم، فكذا في قتل المؤمن، ولهذا الكلام تأكيد آخر وهو أن يقال: نص الله تعالى هناك في العامد، وأوجبنا على الخاطىء.
فههنا نص على الخاطىء، فبأن نوجبه على العامد مع أن احتياج العامد إلى الاعتاق المخلص له عن النار أشد كان ذلك أولى. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}
قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي: لا تجزى الرقبة إلا إذا صام وصلى، وقال الشافعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم: يجزى الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما.
حجة ابن عباس هذه الآية، فإنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة، والمؤمن من يكون موصوفا بالإيمان، والإيمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع، وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي فلم يكن مؤمنا، فوجب أن لا يجزى.
حجة الفقهاء أن قوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خطأ} يدخل فيه الصغير، فكذا قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فوجب أن يدخل فيه الصغير. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعليه تحرير رقبة؛ هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظِّهار أيضًا على ما يأتي.
واختلف العلماء فيما يجزئ منها، فقال ابن عباس والحسن والشَّعْبيّ والنَّخَعِيّ وقَتَادة وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي التي صلّت وعَقَلت الإيمان، لا تجزئ في ذلك الصغيرة، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء ابن أبي رباح: يجزئ الصغير المولود بين مسلمين.
وقال جماعة منهم مالك والشافعيّ: يجزئ كل من حُكم له بحكم في الصَّلاة عليه إن مات ودفنه.
وقال مالك: ومن صلى وصام أحبّ إليّ.
ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مُقْعَد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلّهما، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور.
قال مالك: إلاَّ أن يكون عَرَجًا شديدًا.
ولا يجزئ عند مالك والشافعيّ وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه.
ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطْبَق ولا يجزئ عند مالك الذي يُجَنّ ويُفيق، ويجزئ عند الشافعيّ.
ولا يجزئ عند مالك المُعْتَق إلى سنين، ويجزئ عند الشافعيّ.
ولا يجزئ المُدبَّر عند مالك والأوزاعيّ وأصحابِ الرأي، ويجزئ في قول الشافعيّ وأبي ثور، واختاره ابن المنذر.
وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.
ومن أعتق البعض لا يُقال حرّر رقبة وإنما حَرّر بعضها.
واختلفوا أيضًا في معناها فقيل: أوِجبت تمحيصًا وطهورا لذِنب القاتل، وذنبهُ ترك الاحتياط والتحفّظ حتى هلك على يديه امرؤ مَحْقُون الدّم.
وقيل: أوجبت بدلًا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرّف فيما أحِل له تصرّف الأحياء، وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدًا من عباده يجب له من اسم العبودية صغيرًا كان أو كبيرًا حرًّا كان أو عبدًا مسلمًا كان أو ذِمِّيًا ما يتميز به عن البهائم والدّواب، ويُرْتَجَى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يَخْلُ قاتله من أن يكون فوّت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة.
وأي واحد من هذين المعنيين كان، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدًا مثله، بل أوْلى بوجوب الكفارة عليه منه، على ما يأتي بيانه، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة: وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديوان، والتخطّف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين.
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئًا من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة:
حذارًا على أن لا تُنال مَقادتي ** ولا نِسْوَتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا

ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها.
ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا.
وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين: أحدهما تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بَدلًا من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة، وأنّ العبودية موت؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة.
وسنزيد هذا بيانًا عند قوله تعالى: {وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا} في سورة المائدة (20)، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم.
وثانيهما الدية.
والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ، جبرًا لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما، كما سيأتي.
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن.
وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة، فكانت عوضًا عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها.
قال الحَماسي:
فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فدية ** لَسُقْنَا لهم سَيْبًا من المال مُفْعَما

ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ ** رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما

وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه.
قال زهير:
تُعفَّى الكلوم بالمِئينَ فأصبحت ** يُنجِّمُها مَن ليس فيها بمجرم

وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية، قيل: إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل، فجرت في قريش كذلك، ثمّ تبعهم العرب، وقيل: أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَةُ العَدواني، وكانت ديَة المَلِك ألفًا من الإبل، ودية السادة مائتين من الإبل، وديّة الحليف نصف دية الصّميم.
وأوّل من وُدِي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن.
إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رحمه الله: الدية في العمد المحض وفي شبه العمد مغلظة مثلثة ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها.
وأما في الخطأ المحض فمخففة: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
وأما أبو حنيفة فهو أيضًا هكذا يقول في الكل إلا في شيء واحد فإنه أوجب بني مخاض بدلا عن بنات لبون.
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفية الدية فرجعنا في معرفة الكيفية إلى السنة والقياس، فلم نجد في السنة ما يدل عليه.
وأما القياس فإنه لا مجال للمناسبات والتعليلات المعقولة في تعيين الأسباب وتعيين الأعداد، فلم يبق هاهنا مطمع إلا في قياس الشبه، ونرى أن الدية وجبت بسبب أقوى من السبب الموجب للزكاة، ثم إنا رأينا أن الشرع لم يجعل لبني مخاض دخلا في باب الزكاة، فوجب أن لا يكون لها دخل في باب الدية أيضًا.
وحجة أبي حنيفة أن البراءة كانت ثابتة، والأصل في الثابت البقاء، فكانت البراءة الأصلية باقية، ولا يعدل عن هذا الدليل إلا لدليل أقوى منه فنقول: الأول هو المتفق عليه فاعترفنا بوجوبه: وأما الزائد عليه فوجب أن يبقى على النفي الأصلي.
والجواب: أن الذمة مشغولة بوجوب الدية، والأصل في الثابت البقاء، وقد رأينا حصول الاتفاق على السقوط بأداء أكثر ما قيل فيه، فوجب أن لا يحصل ذلك السقوط عند أداء أقل ما فيه، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ودية مسلمة إِلى أهله} قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين.
كل سنة ثلثها.
والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب، ولا يلزم الجاني منها شيء، وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة.
وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإِبل مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد.
إِحداهما: أنها أصل، فتكون مائتا حلة، فهذه دية الذكر الحرّ المسلم، ودية الحُرّة المسلمة على النصف من ذلك. اهـ.